قصص

قصة غيوم الموت

قصة غيوم الموت

سواد.. ضلمة، كنت شايفهم لحد ما واحدة واحدة صحيت من النوم… قومت قعدت على سريري وبصيت ناحية بلكونة أوضتي، بعد كده بصيت على الأرض جنب السرير ومسكت الأزازة البلاستيك اللي جنبي، شربت منها بوقين مايه بالعدد وحطتها تاني في مكانها، قومت من على السرير واتمشيت ناحية البلكونة وانا بفرك في عيني؛ وصلت لحد البلكونة وحطيت إيديا على السور وانا ببص للشارع وللسما.. الدنيا ضلمة كُحل!
بصيت في الساعة، لقيتها ٣ مساءًا، مش صباحًا.. يعني بكلامنا الدارج (تلاتة العصر).. بس عصر ايه بقى، ده كان زمان.. دلوقتي لا فيها ضُهر ولا عصر، ولا حتى مغرب ولا فجر، مافيش في السما غير غيوم وضلمة.
ماستغربتش اوي من الضلمة، ولو بتسأل نفسك دلوقتي انا ليه ماستغربتش، او ازاي اتعودت على أن الدنيا تبقى ضلمة بالنهار؛ فانا يا سيدي هقطع حيرتك وهجاوبك…
قصة غيوم الموت
من حوالي خمس سنين كانت الدنيا عادي؛ النهار والليل بيجوا في معادهم، لحد ما في يوم، صحي العالم كله على خبر أقل ما يُقال عنه إنه خبر اسود؛ ألا وهو خبر الحرب النووية اللي قامت بين دولة الهند ودولة باكستان، وكان سبب الحرب دي هي النزاعات اللي دايرة ما بينهم من زمان على أقليم كشمير.. عادي، النزاعات دي كان العالم كله بينام وبيصحى على اخبارها من غير اي دهشة او استغرب.. دولة توقع للدولة التانية طيارة، دولة تقتل جنود من الناحية التانية وتقول دول ماتوا بالغلط.. عادي يعني، مناوشات وصراعات كانت بتحصل كل يوم والتاني، لحد ما في يوم حصلت حرب بين الدولتين بسبب إن طيارة انضربت من الدولة التانية والطيارين اللي فيها ماتوا، لكن المرة دي الضرب ماكنش بالغلط ولا حتى الطرف الأول طلع اعتذر او برر للتاني.. فاعتبرتها الهند.. اللي الطيارة بتاعتها هي اللي انضربت بالمناسبة يعني؛ اعتبرتها أعلان رسمي بالحرب عليها، فجهزت ترسانتها النووية وضربت أول صاروخ.. وفي المقابل طبعًا جهزت باكستان هي كمان الترسانة وردت على الصاروخ بتلاتة، بس تفتكر الهند تسكت.. لا ماسكتتش.. ماسكتتش بالرغم من التدخلات الدولية لوقف الحرب، او بالتحديد.. لوقف الكارثة قبل ما تحصل، بس زي ما قولتلك، التدخل كان متأخر والهند كانت ردت على التلات صواريخ بخمسة، وفضلت الحرب دايرة ما بينهم لمدة يومين تقريبًا، يومين بس كانوا كفاية اوي عشان الدولتين يتسببوا في دمار ومحوا نفسهم، هم والدول جيرانهم من على خريطة العالم.. ايوة يا صديقي، الحرب النووية حصلت، لكن مش بين روسيا وامريكا زي ما العالم كله كان متوقع او كان مستني، الحرب كانت أطرافها دولتين ترسانتهم النووية مش قوية اوي زي امريكا وروسيا… وعشان كده الحرب ما بينهم ما قضتش على الكرة الأرضية ولا حاجة، هي قضت على الدولتين وعلى جيرانهم، واتسببت وقتها في موت حوالي ٣٠ مل

صفحتنا علي فيس بوك

تحميل تطبيق لافلي Lovely

قصه سرداب الموت (كامله)

رواية الشادر الفصل الثامن

يون بني أدم، وبعد ما فاتوا سبع أيام بالظبط.. كانت الكرة الأرضية كلها في حالة ظلام دامس، والظلام ده اتسبب فيه السحابة السودة الضخمة اللي حصلت بسبب الحرب، واللي بسببها قالوا العلماء إن الكرة الأرضية هتفضل في الوضع ده لمدة عشر سنين.. عشر سنين من غير شمس، عشر سنين ضلمة وقلة زراعة وانقطاع اللي عايشين جوة الكوكب عن اللي براه.. يعني مابقاش في تواصل مع الاقمار الصناعية، وبالتالي مابقاش في لا فضائيات ولا حتى شبكات اتصالات قوية ومتطورة زي ما كان قبل الحرب.. ومش بس كده، دي كمان ماية الأنهار اتلوثت بسبب الأشعاعات والمطر الملوث اللي وقع فيها، فبالتالي برضه مابقاش في أي مصدر للشرب غير محطات التحلية والأبار، ومن هنا جت المُعضلة.. دول العالم التالت اللي زي حالاتنا كده، واللي طبعًا بتستورد القمح لأن مخزونها مش بيكفيها، الدول دي بقت عايشة في مستنقع حرفيًا.. أمراض وأوبئة اول مرة البشرية تعرفها، مجاعة وذُل وجهل فقر.. اه فقر بجد، فقر من الموارد اللي حتى لو كانت محدودة قبل الحرب، فهي دلوقتي مابقاش ليها أي وجود.

قصة غيوم الموت
العُملة الورقية او الفضية او حتى الألكترونية، اختفوا.. والعالم رجع يتعامل تاني بالمقايضة، يعني الدول الكبيرة واللي كان عندها مخزون من الفاكهة والقمح، بقت بتدي الدول الفقيرة اللي زي دولتي كده القمح والأكل، وده في مقابل حاجات.. حاجات تبان في ظاهرها عدل، لكن جواها ظلم.. كل الظلم، ماهو مش من العدل ابدًا أن الدول دي عشان تدينا أكل، في مُقابله تاخد من عندنا أعضاء بشرية وناس يخدومها ويشتغلوا فيها ساعات طويلة من غير نوم، وطبعًا بيشتغلوا في المولدات اللي بتولد للدول دي الكهربا عشان تفضل منورة، والأعضاء كانوا بيدوها للمواطنين المرضى عشان يطولوا في أعمارهم، والتبادل ده كان بيتم من خلال سُفن لأن الطيارات مابقاش ليها وجود ولا بقت تعرف تطير في الأجواء دي.. يعني سفينة حربية مليانة أكل وقمح، بترسى على شط من شواطيء بلدنا، وقتها بيبقى مستنيها مجموعة من السماسرة ومعاهم شوية مرتزقة او بلطجية بيسموهم الغفر.. والسماسرة دول بيسلموا للسفينة البني أدمين اللي قدروا يقبضوا عليهم او ياخدوهم بالأكراه، وكمان معاهم شوية أعضاء بني أدمين من اللي لسه ميتين طازة او من الناس اللي مرضهم شديد اوي، الناس دول بيموتوهم وبياخدوا أعضائهم وبيدوها للسفينة دي، وفي المقابل زي ما قولتلك، بياخدوا الأكل والقمح وبيبقوا هم المتحكمين فيه، ومش بيبقوا مُتحكمين فيه وبس.. دول كمان بيبقوا مُتحكمين في مصيرنا احنا، اه.. ماهو كل الرجالة او الستات او حتى الأطفال اللي بيقدروا يشتغلوا ولسه فيهم صحة، كانوا بيشتغلوا عند السماسرة دول في المولدات اللي عندنا هنا، المولدات اللي بتنور البيوت واحيانًا الشوارع، وفي مقابل الشغل ده، العمال.. اللي واحد منهم، كانوا بياخدوا الفتافيت او بواقي الأكل اللي بيتفضل من السماسرة ورجالتهم والغفر.
قصة غيوم الموت
مهزلة.. العالم بقى في مهزلة، فوضى في كل مكان، الحروب الأهلية بقينا بنسمع عنها يوميًا، دول اختفت من على الخريطة.. ودول كانت غنية وبقت في مجاعة، ده حتى الناس والمناطق والشوارع مابقوش زي ما كانوا.. الأمراض بقت زي الكلاب المسعورة.. بتنهش في جسم كل اللي مناعتهم ضعيفة، وبالتالي حالات الوفاة زادت ومعاها المقابر، ومش بس المقابر.. دي كمان مقالب الزبالة والخرابات، بقى ليهم المكان الأكبر من الشوارع.. وطبعًا بما إننا بنتكلم عن مقابر جماعية وخرابات وضلمة، فبالتأكيد هيكون في جن ودجالين.. ايوة يا صديقي ماتستغربش اوي كده، الدجل والشعوذة والجهل.. كل الحاجات دي لسه موجودة، ومش زي الأول وبس.. لأ، دي بقت اكتر وابشع وافظع؛ الدجالين بقوا بيشتغلوا اكتر من الطب.. الطب اللي مابقاش له مستشفيات، بقى بيقتصر بس على مراكز اسعاف بسيطة اوي، وانتشار الدجل كان بسبب انتشار حالات الصرع بين الناس، واللي المعظم بقى مقتنع إن دي حالات مَس من الجن او حتى لَبس، مع إنها في الحقيقة بتبقى غير كده تمامًا، حالات الصرع الزيادة دي كان سببها التلوث والجو المقزز اللي احنا عايشين فيه، بس تقول لمين.. احنا اللي فينا هيفضل فينا لحد نهاية البشرية، بس صدقني كل ده ماكنش مهم بالنسبة لي، انا اللي يهمني هم أهلي، او بمعنى أوضح.. اللي اتبقى من أهلي، اخواتي الاتنين، مصطفى الكبير.. وطه الصغير، ولو هتسألني عن بقية أهلي، فانا هقولك إنهم ماتوا، مراتي وابني اللي كان عنده خمس سنين، ومرات مصطفى وعياله الاتنين وامي وابويا، كل دول ماتوا.. ماتوا وقدرت انا واخواتي إننا ندفنهم بعد موتهم في مكان ما بعيد عن إيد الغفر والسماسرة والدجالين، ولحد هنا اسمح لي اقولك إن الحياة ماوقفتش ولا انا موتت.. هو اه انا بتمنى الموت كل يوم، وكل ما اغمض عيني عشان انام، بتمنى إن انا مافتحهاش تاني، لكن هنقول ايه.. سُنة الحياة، روحي لسه متعلقة في الدنيا زي الغريق اللي لو عاوز ينتحر ورميته في البحر، هتلاقيه بيضبش بإيديه الاتنين وبيعوم ولا اجدعها سباح عشان يوصل للبر!
وقفت في البلكونة وانا سرحان في كل البلاوي اللي عيشتها في الخمس سنين اللي فاتوا، بصيت للسما وسرحت.. سرحت في الغيوم اللي بتشبه كتير اوي للمستقبل الجاي في الخمس سنين اللي هيجوا بعد كده، بس في لحظة قطع سرحاني صوت سُعال اخويا مصطفى من الأوضة اللي جنبي؛ مصطفى بقاله كام يوم تعبان اوي وبسبب تعبه ده مابيروحش الشغل في المولد اللي بيملكه استاذ شفيع، والمولد ده هو عبارة عن مكان بيشتغلوا فيه مجموعة من العمال، بيفضلوا يلفوا أدرعة حديد عشان يولدوا طاقة بتتحول بعد كده لكهربا.. بنستخدمها عشان نعرف نعيش، وبالمناسبة يعني انا بشتغل معاه انا وطه.. بنشتغل عشان نعرف نلاقي اخر كل يوم اكل يخلينا عايشين لليوم اللي بعده، أما بقى عن شفيع صاحب المولد.. فده راجل ضلالي، سمسار من السماسرة، مابيهمهوش أي حاجة غير الشغل والسمسرة وبس، بيرميلنا الفتافيت والأكل المعفن عشان بس نقدر عايشين، وعشان كده مصطفى اخويا بسبب الأكل والماية والأجواء وشدة حزنه على موت مراته وعياله، المرض أعلن الحرب على جسمه اللي بقى ضعيف ومابقاش يقدر يقاوم.
فوقت من سرحاني زي ما قولت على صوت كُحة مصطفى، خرجت من البلكونة جري وروحت على أوضته، دخلت عليه لقيته نايم في سريره وعمال يكُح وهو بياخد نفسه بالعافية، قربت منه وحاولت اساعده، لكنه فضل يكح لحد ما قومت على المطبخ وجيبتله شوية مايه وشربته، دقايق وابتدى مصطفى يهدى ويتكلم معايا بصوت مبحوح من كتر الكحة اللي كحها..
-محمود.. انا.. انا تعبان اوي، حاسس اني خلاص هموت.. نهايتي.. نهايتي بتقرب وشايفها قصاد عيني يا اخويا.
حضنته وانا قلبي بيتقطع على حالته وعلى الحالة اللي احنا وصلنالها..
-ماتقولش كده يا اخويا، ده انت الخير والبركة، ربنا يطول لنا في عمرك ومايحرمناش منك أبدًا.
بَعدني عنه وبص لي والدموع في عينيه..
قصة غيوم الموت
-لا.. العمر مش هيطول اكتر من كده، انا اساسًا مش عاوزه يطول، انا مراتي وولادي وابوك وامك وحشوني اوي وعاوز اروحلهم، ادعيلي اموت وارتاح عشان اقبلهم، ماهو أكيد.. أكيد ربنا عزوجل عنده خير وجنة ورحمة، وانا واثق إني لما اموت هرتاح من جهنم اللي احنا عايشين فيها دي، بس يا اخويا أمانة عليك.. أمانة عليك وفي رقبتك ليوم الدين، أوعى تخليهم ياخدوا جتتي لما اموت ولا حتى ياخدوا أي حاجة منها، اعمل معايا زي ما عملنا مع أهالينا.. خدني انت وطه وادفنوني في مكان بعيد عن الُترب اللي الدجالين وغفر السماسرة بينبشوها، ادفنوني في مكان وانسوه.. ماتجوش تزوروني عشان ماحدش يعرف انا فين ويطلعني من قبري، أمانة.. دي أمانة ووصيتي ليك قبل ما اموت.
هَديته وحاولت اواسيه لما رديت عليه بابتسامة بهتانة..
-ماتقولش كده يا درش.. انت هتعيش، هتعيش لحد ما العك اللي احنا فيه ده يخلص والحياة ترجع زي ما كانت، فاكر يا مصطفى.. فاكر شركة الأجهزة الكهربائية بتاعتنا اللي خربت من بعد الحرب، انا حاسس بقى إنك هتفضل عايش لحد ما الدنيا ترجع زي ما كانت، ونرجع انا وانت وطه نفتحها من تاني ونشتغل فيها ونبقى ملوك السوق.
لَف اخويا وشه وبص ناحية بلكونة أوضته، سَرح لثواني في الضلمة اللي برة البيت وقال لي وهو بياخد نَفس طويل وبيخرجه بألم..
-ااه.. الألم اللي انا حاسس بيه بيقول غير كده، وبعدين تفتكر يعني لو رجعنا تاني وجهنم اللي احنا عايشين فيها دي اتحولت لجنة، تفتكر انا هبقى سعيد، انت هتبقى سعيد؟.. قول لي هنعيش ازاي من غير أهالينا، ازاي هنصحى كل يوم الصبح ونشوف نور الشمس ونشتغل واحنا من غير عيالنا، لا يا محمود.. اللي انت بتقوله ده مستحيل يحصل، وحتى لو حصل.. فمش هيبقى له طعم، احنا خلاص حياتنا بتخلص والدنيا من حوالينا بتنتهي، فادعيلي إني اموت قبل ما اشوف نهايتها واتعذب عذاب زيادة عن اللي انا بتعذبه، ادعيلي يا اخويا بالراحة واياك تنسى الوصية.. إياك يا محمود.
خلص مصطفى كلامه وبعد ما هَديته وخليته ينام ويرتاح، قفلت عليه باب الأوضة وخرجت، روحت للمطبخ وأخدت ثمرة بايظة كانت مرمية على الرخامة، أكلت منها قطمتين وانا بروح ناحية أوضتي عشان البس وانزل للشغل، ما انا بشتغل من الساعة خمسة مساءًا.. للساعة خمسة صباحًا، بس مش هتفرق صباحًا من مساءًا يعني.. كده كده اليوم كله مساءًا، أما على الناحية التانية بقى، فاخويا الصغير طه.. بيشتغل في وردية عكس ورديتي، يعني بيشتغل من الساعة اربعة صباحًا لاربعة مساءًا، وعشان كده في الوقت اللي خرجت فيه من المطبخ وكنت رايح أوضتي، سمعت صوت باب البيت بيتفتح، دخل منه طه اخويا اللي أول ما شوفته سلمت عليه..
قصة غيوم الموت
-حمد لله عالسلامة يا طه.
بص لي وماردش، وشه كان مقلوب وكان واضح اوي انه متضايق من حاجة، دخل وقفل الباب وراه ورمى المفاتيح على كرسي من كراسي الصالة وقعد على الكرسي اللي جنبه، قلع جزمته وهو لسه متضايق ومانطقش بحرف واحد.. وقتها قربت منه وسألته..
-ايه يا ابني مالك.. وشك مقلوب كده ليه؟!
رَفع راسه وبص لي بنظرة مليانة تعب وأرهاق وحزن..
-شفيع يا محمود.. شفيع النهاردة سأل على اخوك، ولما قولتله إنه لسه تعبان عَرض عليا عرض.. قال لي ايه رأيك لو..
وقبل ما يكمل كلامه، قاطعته بنرفزة..
-لو ايه.. انت اتجننت، انا عارف شفيع كلمك في ايه، أكيد قالك ايه رأيك لو اديتنا اخوك وبيعناه أعضاء وخدنا بداله أكل، لا لا.. مستحيل، مستحيل تكون بتفكر بالطريقة دي، أكيد انت ماتقصدش انك بتفكر، وأكيد كمان انت.. انت متضايق من عرض شفيع ومابتفكرش تنفذه يعني، صح يا طه.. صح؟!
سكت طه لثواني، بعدهم اتكلم وقال لي بحزن..
-وليه لأ.. ليه مانستفادش وناخد منه أكل نضيف بدل الزبالة اللي بناكلها كل يوم دي، يعني انت عاجبك حالنا يا محمود.. عاجباك التفاحة البايظة اللي انت بتاكل فيها بقالك يومين دي، ايه.. مش نفسك يا أخي تاكل عيش معمول من قمح نضيف وكام حتة لحمة مع فاكهة طازة.. فكر يا أخي بعقلك شوية، ده الحي أبقى من الميت.
اول ما قال جملته الاخيرة دي، قربت منه ومسكته من رقبته..
-ميت مين ياللي ماعندكش لا نخوة ولا ضمير.. ميت مين، اخوك لسه عايش ماماتش.
زق إيدي وهو بيقولي بصوت واطي عشان مصطفى مايسمعهوش..
-بس هيموت.. كده كده هيموت يا محمود، انت مش شايف شكله عامل ازاي، ده بقاله أيام مابينامش ساعتين على بعض بسبب الكحة، فمافيهاش مانع يعني إنه لما يموت نستفاد منه بدل ما جتته ياكلها التراب، وقبل بس ما تقولي انت لو مكانه كنت هتقول كده.. فخليني اقولك اه، انا لو مكان مصطفى وهو مكاني، كنت هوافق واقولك سلموا جتتي وانا عيان كده لشفيع واستفادوا انتوا بالأكل اللي هتاخدوه منه، انا مش أناني يا محمود.. انا بس عاوز اعيش.
حطيت إيدي على راسي وبعدت عنه، مابقتش عارف اقوله ايه، دماغي من كتر التفكير وضغط الدم العالي كانت هتنفجر، فضلت ساكت وانا عمال اتمشى حواليه لحد ما وقفت قصاده وشاورتله بنظرة مليانة غِل وتحدي..
-انت مش مكانه وهو مش مكانك، وزي ما قولتلك هو ماماتش، وحتى لو مات.. فهو موصيني انه يندفن زي ما دفننا أهالينا، وانا بقى مش هكسر وصيته ولا اسلم جثته لشفيع، لا وهو حي، ولا وهو ميت.. ولو فكرت بس يا طه مجرد تفكير.. مجرد تفكير بس إنك تسلمه لغفر شفيع، اقسملك باللي خلق الخلق لا هكون انا بنفسي قاتلك ومسلمك مش لشفيع بقى، لا.. انا هسلمك لكلاب السكك ينهشوا في لحمك، أمين؟!.. انا هدخل البس وانزل الشغل، ولما اروح واقابل شفيع، هقوله إن مصطفى حالته بتتحسن وانه هيرجع الشغل بعد يومين، وانت كمان لما تشوفه بكرة ابقى آمن على كلامي، واي حاجة هتتعمل غير اللي انا قولته ده، ماقدرش اقولك انا ممكن اعمل فيك ايه.. صدقني رقبتك هتبقى هي أهون حاجة عندي، وزي ما اخوك الكبير اللي رباك هيهون عليك وهتسلمه للي ماعندوش ضمير ده، فانت كمان هتهون عليا وتسليمك لكلاب الترب والسكك، هيبقى بالنسبة لي حاجة بسيطة اوي جنب كسرك لوصية اخوك وأهانته وهو ميت، خلص الكلام يا ابن امي وابويا.
خلصت كلامي مع طه ودخلت غيرت هدومي ونزلت على الشغل، وصلت لموقع المولد ولبست هدوم الشغل وابتديت اشتغل انا والعمال اللي معايا، ساعات من الشغل المتواصل في لف الأدرعة اللي متوصلة بتروس بتولد طاقة، لحد ما تعبنا وجه وقت الراحة، وقتها قعدنا كلنا كعمال يعني عشان ناكل الوجبة بتاعتنا، بس في وسط ما كنا بناكل وانا كنت سرحان في الأكل اللي مابعرفش اكله الا في الشغل بسبب إنه أنضف من الاكل اللي بنستلمه واحنا مروحين، فجأة سمعت صوت هادي زميلي اللي كان قاعد جنبي وهو بيهمسلي..
-محمود.. الريس شفيع، جاي وبيبص عليك.
قصة غيوم الموت
سيبت الأكل من إيدي وقومت وقفت، بصيت له وهو بيقرب عليا بتحدي، شخص سمج وبارد.. كرشه قصاده مترين زي ما بيقولوا.. ريحته النضيفة وهيئته كانوا بيخلوني استحقره اكتر واكتر.. ماهو لما واحد في وسط العفن اللي احنا عايشين فيه ده كله، يبقى بالنضافة والشياكة دي، أكيد هيبقى وراه مصايب، لكنه قَطع تفكيري وكل الكلام اللي كنت مرتب إني هقولهوله اول ما قرب مني وقال لي بابتسامته اللي بكرهها اكتر ما بكره الذل والمهانة اللي احنا عايشين فيهم..
-ابو حنفي.. عامل يا وحش؟!
ابتسمتله انا كمان ابتسامة مُصطنعة..
-زي الفل ياريس، خير.. في حاجة؟!
قرب مني اكتر وحط إيده على كتفي وهو بيقولي..
-اخوك مصطفى.. بقاله فترة تعبان ومابيجيش الشغل، ولما سألت اخوك طه عليه النهاردة الصبح، قال لي إن مرضه بيزيد وإنه…
قاطعته قبل ما يكمل كلامه..
-إنه أيه يا ريس، لا مش إنه ولا حاجة، انا اخويا الحمد لله يعني بيتعافى وكلها يومين وهينزل الشغل، انا براعيه وباخد بالي منه، وطه تقريبًا مايعرفش عنه حاجة خالص.. ماتقلقش ياريس، يومين بالظبط وهيرجع الشغل تاني.
لما قولتله كده، بص لي بنظرة مليانة خُبث، شيطان وانا عارفه.. أكيد مستني اخويا يموت عشان ياخد أعضاؤه ويديها للسماسرة اللي بيجوا مع المراكب من برة، ولا ليه يستناه لما يموت.. ده أبليس، يعني ممكن اوي يبعت الغفر يخطفوه وهو عايش من ورانا، ويقطعه حتت ويستبدله بأكل!
يتبع
(ده الجزء الأول من قصة غيوم الموت..)
غيوم الموت
٢
قرب مني اكتر وحط إيده على كتفي وهو بيقولي..
-اخوك مصطفى.. بقاله فترة تعبان ومابيجيش الشغل، ولما سألت اخوك طه عليه النهاردة الصبح، قال لي إن مرضه بيزيد وإنه…
قاطعته قبل ما يكمل كلامه..
-إنه أيه يا ريس، لا مش إنه ولا حاجة، انا اخويا الحمد لله يعني بيتعافى وكلها يومين وهينزل الشغل، انا براعيه وباخد بالي منه، وطه تقريبًا مايعرفش عنه حاجة خالص.. ماتقلقش ياريس، يومين بالظبط وهيرجع الشغل تاني.
لما قولتله كده، بص لي بنظرة مليانة خُبث، شيطان وانا عارفه.. أكيد مستني اخويا يموت عشان ياخد أعضاؤه ويديها للسماسرة اللي بيجوا مع المراكب من برة، ولا ليه يستناه لما يموت.. ده أبليس، يعني ممكن اوي يبعت الغفر يخطفوه وهو عايش من ورانا، ويقطعه حتت ويستبدله بأكل!
الأفكار كانت بتنهش في عقلي زي المجاذيب، بصيتله وبلعت ريقي بقلق وهو بيقولي وعلى وشه نفس الابتسامة اللي مش في محلها خالص..
-ماشي يا ابو حنفي.. ماشي، بس اعمل حسابك إنه لو مارجعش كمان يومين، هروحله بنفسي انا والغفر عشان… عشان نطمن عليه، ولا ايه!.. مش زيارة المريض اللي قرب يموت برضه واجب، ولا انت فاكرني مابفهمش في الأصول.
حاولت اتماسك قصاده وامسك نفسي كده عشان مايبانش إن انا بكدب، ابتسمت في وشه ابتسامة صفرا شبه ابتسامته..
-لا طبعًا.. انت ابو الأصول والواجب، لكن ماتقلقش.. اخويا حالته مش محتاجة لأي زيارات، وزي ما وعدت حضرتك، كلها يومين بالظبط وهيكون موجود.
بص لي من فوق لتحت وسابني ومشي، رجعت مكاني تاني وقعدت عشان اكمل أكل، بس انا وقتها دماغي ماكانتش مع الأكل خالص.. انا كل تفكيري كان هناك.. في البيت مع مصطفى اخويا ومرضه، وكمان مع طه وكلامه ومن بعده كلام شفيع.. انا كده اخويا في خطر، ممكن اوي شفيع مايستناش ويبعت الغفر ياخدوا مصطفى وهو حي، وده بالاتفاق مع طه.. انا مش هينفع اسيب مصطفى في البيت، هو كده كده لا هيتحسن ولا نيلة، انا شايف إنه كل يوم بيسوء اكتر من اليوم اللي قبله، واحتمالية موته بقت اكبر بكتير من احتمالية إنه يخف!
دقايق فضلت سرحان وانا بفكر فيهم ممكن اعمل ايه، لحد ما بعد تفكير لفترة، ربنا ألهمني بفكرة… ميلت على هادي زميلي اللي كان قاعد جنبي وقولتله بصوت واطي اوي عشان ماحدش يسمعنا..
-هادي.. انا اخويا مصطفى في خطر، شفيع عايز ياخد جتته وهو عايش لأنه تعبان، وطبعًا انت عارف اللي غفر بياخدوه، جتته بيتعمل فيها ايه.. فبالله عليك يا أخي، بالله عليك ساعدني عشان انقذه.
وقف بوق هادي عن المضغ وركز معايا بودانه وهو باصص قدامه عشان ماحدش يشك فينا..
-قولي.. اساعدك ازاي، مصطفى ده زي اخويا الكبير وانا مارضاش إنه يتباع أعضاء وهو حي.
عملت نفسي إن انا باكل وقولتله بنفس الصوت الواطي..
-انا دلوقتي هصرخ، هقوم امسك بطني وافضل اصرخ وهقول للغفر إن انا تعبان اوي وعاوز اروح لمركز الأسعاف.. وطبيعي هم هيبعتوا حد معايا من العمال زي ما متعودين لما حد بيتعب في وقت الشغل، وقتها انت هتقرب مني وهتمسك فيا وهتبقى مصمم إنك تساعدني وتوصلني، وطبعًا لما نخرج من هنا، انا هروح على البيت وهاخد اخويا وهخبيه في اي حتة بعيدة عن نظر الغفر وشفيع، وانت هترجع على هنا تاني على هنا وتقولهم إن المسعفين في مركز الاسعاف، قالوا إن انا تعبان ولازم اروح البيت ارتاح.. وطبعًا هتقولهم إنك وصلتني البيت وبعد ما اطمنت عليا رجعت الشغل من تاني.. اتفقنا؟!
هز لي هادي راسه بالموافقة..
قصة غيوم الموت
-اتفقنا.. اتفقنا يا ابن الجنية، بس يارب تيجي زي ما احنا عايزين.
في الوقت ده ومن غير أي مقدمات، قومت وقفت وحطيت إيدي على بطني وفضلت اصرخ..
-اااه.. بطني، همووت.. الحقوني، الألم.. الألم فظيع، ااه..
اتلموا عليا الغفر والعمال، الكل كان بيحاول يفهم مالي، وكل واحد بقى كان بيقول كلمة.. اللي يقول ده جاله فيرس من الفيروسات المنتشرة الأيام دي، واللي يقول ده اتسمم ولازم يروح مركز الأسعاف، واللي يعيد واللي يزيد.. لحد ما اتدخل واحد من قادة الغفر اللي بيحرسوا المولد وقال بصوت عالي..
-شكلها حالة تسمم.. حد ياخده ويروح معاه لمركز الأسعاف.
اتدخل هادي ورفع إيديه..
-ايوة يا فندم.. انا ممكن اساعده واشيله لحد مركز الأسعاف.
بص له القائد من فوق لتحت وقال له وهو بيهز دماغه..
-ماشي.. خده يا هادي ووديه مركز الأسعاف، وبعد ما تطمن عليه، ترجع انت وهو تاني على هنا، ولو قالوا لك إنه لازم يبات في المركز او يروح البيت، سيبه هناك او وصله بيته وبعد كده تعالى على هنا.
وطبعًا من غير أي تفكير.. سمع هادي كلام القائد وخرجنا انا وهو من المنطقة اللي فيها المولد، ومع خروجنا وعشان نسبك الدور كويس، عديت على مسعف في مركز الأسعاف واديته تفحاية كنت حطتها في جيبي وقت الغدا.. وبعد ما اديتهاله قولتله إن لو حد من الغفر جه وسأل عني، قول له إنك كشفت عليا ولقتني عندي حالة تسمم، وعشان كده ادتني دوا وخلتني اروح البيت.. فرح طبعًا المسعف بالتفحاية، وانا روحت انا وهادي على البيت اللي وصلني لحد بابه وبعد كده رجع هو على المولد..
طلعت البيت وانا بتسحب زي الحرامية عشان طه مايصحاش، دخلت على أوضة مصطفى وحاولت اصحيه بالراحة لأنه كان نايم..
-مصطفى.. يا درش، اصحى يا مصطفى، يا مصطفى قوم..
لكنه ماكنش بيرد عليا، ففضلت ازقه شمال ويمين على أمل إنه يقوم من النوم.. لكنه ماقامش، لا حياة لمن تُنادي!
حطيت إيدي على رقبته وودني على صدره، فضلت مذهول للحظات وانا مش مصدق، الدموع غصب عني نزلت من عينيا وانا باخده في حضني وبقول بصوت واطي..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنَ لله وإنَ إليه رَاجعون.. الله يرحمك يا مصطفى، الله يرحمك يا اخويا.. بس لا.. انا مش هسيبك هنا لحد ما ياخدوك مني بالعافية، انا هدفنك.. هدفنك في مكان بعيد زي ما وصتني.
قومت من جنبه وانا بلف في الشقة زي المجنون، اعمل ايه وانزل بيه ازاي من غير ما حد يشوفني ويبلغ الغفر، خدت حوالي ربع ساعة لحد ما جت لي فكرة كويسة اوي… جيبت شوال كبير من القماش كنت بشيل فيه أوراقي المهمة والحاجات اللي بحب احتفظ بيها، فضيتها كلها تحت سريري بالراحة وخدت الشوال وحطيت فيه جثة اخويا مصطفى وربطته كويس اوي.
جرجرت الشوال لحد باب البيت وانا بتلفت حواليا، الخوف والقلق من إن طه يصحى ويشوفني ويغدر بيا، كان مخليني بتصرف بكل حذر.. وفعلًا نجحت في اللي كنت بخطط له، انا خرجت الشوال اللي فيه مصطفى برة البيت وفضلت ماشي بيه في الشارع وانا شايله، كنت ماشي في الشوارع الضلمة اللي مليانة برك من الطينة واكوام من الزبالة وانا ببكي.. تملي كان عندي اعتقاد بأن الشر اللي في العالم اساسه هو البشر، وكمان كان عندي اعتقاد بأن نهايتنا المأساوية هتبقى على إيدينا احنا.. واديني اهو، بداية النهاية لحياتي بتبدأ.. بتبدأ بموت اخويا اللي فضلت شايله على كتفي لحد ما وصلت لمكان صحراوي بعيد، حطيت الشوال على الأرض وخرجته منه، مافيش كفن.. مافيش مايه نضيفة يتغسل بيها، بصيت له وانا الدموع نازلة زي الشلالات من عيوني، لحظات وتماسكت، روحت ناحية مكان رملي وابتديت احفر بإيديا وبكل قوة… خدت وقت كبير في الحفر لحد ما وصلت لعمق معقول، بعد كده رَجعت جسم اخويا تاني جوة الشوال القماش وكأنه كفن.. كانت راسه لسه برة الشوال، بوست جبهته وقولتله وانا لسه بعيط زي العيل الصغير اللي بيودع كل أهله..
-هتوحشني يا مصطفى، هتوحشني يا حبيبي.. بس تعرف، انا برضه مش زعلان اوي.. اه مش زعلان لأني نفذتلك وصيتك ودفنتك زي ما كنت بتتمنى.
قولتله كلامي ده وغطيت راسه ودفنته في الحفرة، وزي ما حفرت زي ما ردمت.. وفي النهاية الحفرة اتقفلت وقعدت جنبها وانا ببكي، إيديا كانت بدأت تنزف من كتر الحفر والردم، لكن احساس الألم اللي جوة قلبي، كان اكبر بكتير من الألم اللي انا حاسه في إيديا من بعد الحفر، مسحت الدموع من على عينيا وبصيت للغيوم السودة اللي في السما وابتديت اتكلم معاها وكأنها أنسان قدامي..
قصة غيوم الموت
-النجوم والشمس والقمر وأهلي، كلكوا اختفيتوا من غير ما اكون عامل حسابي لغيابكوا.. نَعم كتيرة كنا عايشين فيها اختفت، النهار.. المايه النضيفة، الأهل، كلها نَعم من ربنا ماحستش بقيمتها إلا لما اختفت، ياارب.. يارب عَجل بالنهاية يأما بالفرج.
سكتت وفضلت سرحان في الغيوم، افتكرت كلام مصطفى قبل ما يموت عن إن الدنيا لو رجعت زي ما كانت، هل هبقى سعيد وهيبقى عندي أمل في بكرة ولا لأ.. تسوى ايه الدنيا من غير أهلي وحبايبي اللي راحوا، فوقت بعد شوية على صوت المطر الاسود اللي نزل من السما زي الدموع المتكحلة بسواد الهم والحزن، قومت من مكاني ومشيت في الشوارع وانا هايم.. رجليا فضلت ماشية لحد ما روحت البيت، فتحت الباب ودخلت.. واول ما فتحت النور، لقيت الصالة مليانة غفر واخويا طه واقف وسطهم، عينيه كانت مليانة دموع وشاورلهم عليا..
-اهو رجع.. اسألوه هو بقى عن مصطفى وسيبوني.
بص رئيس الغفر اللي موجودين لإيديا، كان واضح إنهم مليانين تراب ومجروحين، حاولت اروح ناحية الباب عشان اخرج، لكن في اللحظة دي اتلم عليا اتنين من الغفر ومسكوني بكل قوة، بعدها مسك القائد بتاعهم لاسلكي من اللي بيبقوا مع الغفر واتكلم فيه وهو بيبصلي اوي..
-ايوة يا ريس يا شفيع، شكل اخوه مات وهو راح دفنه.
رد عليه شفيع من الناحية التانية..
-خلاص.. طالما دفن اخوه يبقى ناخده هو بداله، هاتوه على الهنجر.
وأول ما قال كلمة الهنجر دي حسيت بخبطة قوية اوي على راسي، بعدها الدنيا ضلمت من حواليا!!!
ماعرفش فقدت الوعي قد ايه، انا كل اللي اعرفه إني أول ما فوقت وفتحت عيني، لقيت نفسي مرمي في مكان قذر.. ولما بقولك مكان قذر، فانا اقصد إنه أقذر من الشوارع والحياة اللي براه، مكان فيه ريحة قذرة، حواليا ناس شِبه أموات، إيديهم ورجليهم متكتفين زي حالاتي، حاولت اقوم او اقاوم او حتى افك نفسي، بس ماعرفتش.. فضلت اصرخ بعلو صوتي لحد ما دخل عليا تلاتة من الغفر ومن وسطهم ظهر شفيع، كان ماسك لاسلكي في إيده، بص للناس اللي مرمين على الأرض حواليا وبعد كده قرب مني وقال لي وهو بيضحك ضحكة خفيفة..
-غبي.. روحت دفنته عشان مانوصلش لجثته ولا ناخد أعضاؤه، طب تعرف إن انا والله كنت ناوي بعد ما اخده أديكوا أكل يكفيكوا لمدة شهر!.. ومش بس كده، ده انا كمان كنت هديكوا ماية نضيفة وروايح ولبس نضيف، إنما تقول ايه بقى، غبي.. كنت اسمع كلام اخوك طه، لازم تعمل فيها ناصح يعني.. يا ابني ده الحي ابقى من الميت، وانت اهو.. اديك دلوقتي موجود وسط العبيد وهتتسلم للمركب اللي جاية كمان شوية، وفي مقابل كده هناخد أكل ولبس واي حاجة ممكن تساعدنا في إننا نفضل عايشين، يلا.. عشان تبقى تعمل فيها بطل بعد كده.
حاولت افك نفسي من تاني وانا برد عليه بغِل وكره..
-طب فكني.. فكني طيب وانا اوريك مين فينا العبد ومين فينا سيده، انت مش راجل يا شفيع، انت بتتحامى في شوية الغفر اللي حواليك دول، إنما انت من غيرهم ولا تسوى، وصدقني انا اه بطل.. بطل لأني لسه عايش لحد النهاردة، وبطل لأني قدرت ادفن اخويا وانفذ وصيته، وكمان بطل عشان هزمتك وخليتك تفشل في إنك تاخد أعضاؤه وهو حي.. بس صدقني انا مايهمنيش اللي هشوفه برة، سواء بقى كنت هشتغل عبد ولا هياخدوا أعضائي ويدوها للناس العيانين عشان يعيشوا.. كل ده مايهمنيش، انا اللي يهمني إني حافظت على جسم اخويا، حتى لو جسمي وروحي هيكونوا هم المقابل.
ضحك شفيع بصوت عالي…
قصة غيوم الموت
-يا ابني انت عبيط!.. الأبطال مالهمش مكان في المستنقع اللي احنا عايشين فيه ده، اللي بيعيش وبيفضل عايش هو الندل، التاجر الشاطر اللي يستغل كل حاجة حواليه لمصلحته، زماننا ده يا محمود مابقاش زمن أبطال.. بقى زمن تُجار وسماسرة، وانت للأسف بطل شاطر.. لكنك برضه تاجر حمار، حسبتها غلط، ونتيجة حسبتك الغلط.. هتكون بعد ساعات في المركب اللي هتنقلك لجهنم.
سكت شوية وقرب اللاسلكي من بوقه..
-يا غفير… خلي العربيات تجهز، هننقل العبيد ونوديهم على الشط عشان يلحقوا المركب اللي هتوصل بعد ساعات.
لكن الغريب بقى كان رد الغفير عليه من الناحية التانية لما قال له..
-لا لا.. مركب ايه يا شفيع بيه، ده في مصيبة حصلت، المركب الامريكية اللي جاية لنا اتعرضت لقرصنة من مركب روسي، وبسبب كده امريكا أعلنت الحرب على روسيا وضربتها بصاروخين نووي، فروسيا قالت إنها هتضرب امريكا بكل ترسانتها النووية وهتخفيها من على الأرض خالص.
ابتسمت لما سمعت الكلام ده، وفي المقابل ارتبك شفيع وابتدى يعرق وهو بيرد على الغفير في اللاسلكي..
-وانت.. وانت عرفت الكلام الاهبل ده منين، مش جايز تكون أشاعات او تكون مجرد حرب كلامية والسلام!
لكن الغفير رد بصوت مرتبك وخايف..
-والله أبدًا.. اللي قال لي كده هم بحارة رووس وصلوا عند الشط من شوية، المركب بتاعتهم كانت هتتعرض للقصف فغيروا مسارها ورسيوا في بلدنا.. يا شفيع بيه خلاص، شكلها الحرب العالمية الرابعة.. وخلاص الدنيا هتنتهي، احنا مش عارفين هنعمل ايه ولا هنتصرف ازاي.. دي روسيا لو ضربت امريكا بكل تراسنتها النووية مش هتبيدها هي وبس لا، دي هتبيد كل المتبقي من البشر واليابس.. يا شفيع بيه احنا.. شششششششش.
سكت الغفير واتبدل صوته ب وَش، وقتها الارتباك زاد في المكان، شفيع رمى اللاسلكي وطلع يجري هو والغفر.. وفي لحظة الارض اتهزت بزلزال قوي اوي.. بعده ابتديت اسمع من برة المكان أصوات صرخات وانفجارات، بعدهم سمعت صوت انفجار كبير اوي بسببه لقيت شفيع واللي معاه داخلين يجروا على الأوضة اللي انا فيها وهم بيصرخوا.. وشوشوهم كانت متشوهة وكأنهم اتعرضوا لحريق.. ايوة.. خلاص… دي الحرب العالمية الرابعة جاية وجايبة معاها النهاية لجنسنا كله، الهزات الأرضية بتزيد.. أصوات الصرخات بتعلى، شفيع واللي معاه بيصرخوا اكتر.. وانا لساني مابطلش دعاء لحد ما سمعت من بعيد صوت انفجار كبير وبعده صوت انفجار تاني أقرب، وبعدهم صوت انفجار قريب اوي ومعاه الدنيا ضلمت للأبد…
(محمود.. يامحمود.. يا جدع انت قوم بقى، الله يخربيت النت على اللابتوب على القراية اللي هتلحس نظرك دي..)
فتحت عيني لقيت نفسي نايم على سريري ومراتي بتصحيني!
قومت وانا مذهول ومش مصدق، معقول… معقول يكون كل اللي شوفته ده كان حلم!
بصيت لمراتي ورجعت بصيت للابتوب اللي كان جنبي على السرير، ايوة ايوة افتكرت.. انا نمت وانا بقرأ مقال بحثي على الانترنت، والمقال ده كان بيتكلم على نموذج مُحاكاه عاملينه اتنين علماء، والاتنين علماء دول كانوا بيتوقعوا إن الأرض هتفضل في ظلام لمدة عشر سنين لو قامت الحرب النووية بين دولة الهند ودولة باكستان..
-استغفر الله العظيم.. كان كابوس مرعب يا غادة، كابوس تقدري تقولي كده إنه مرعب اكتر من أي فيلم اجنبي رعب ممكن اكون شوفته في حياتي.
ضحكت مراتي وهي بتشيل اللاب توب من جنبي وبتقفله..
-طب يا سيدي، الحمد لله إنه طلع كابوس.. قوم بقى يلا واخرج الصالة عشان اخوك طه عايزك برة.
خبطت بإيدي على راسي بعد ما بصيت للساعة..
-ااه.. طه.. النهاردة الساعة ٢ الضهر عندنا اجتماع في الشركة مع التاجر المنافس لينا، شفيع عبد الباري.. اهو الراجل ده يا غادة بعد سنين من المنافسة، قرر اخيرًا إنه يعمل بورتوكول تعاون مع شركتنا.
طبطبت عليا مراتي وهي بتقولي..
-ربنا يوفقك يا حبيبي ويبعد عنك انت واخواتك.. طه ومصطفى كل شر، ويقرب منكم الخير.. يلا بقى اخرج لطه عشان مستنيك بقاله شوية.
قومت من على سريري وروحت ناحية الحمام، غسلت وشي وخرجت قعدت مع طه اخويا اللي بعد ما سلم عليا قال لي واحنا بنقعد..
-انا جيتلك يا سيدي عشان عارف إنك هتفضل نايم لحد ما انا اجي واصحيك، يلا بقى قوم افطر كده والبس عشان نلحق نروح الشركة ونقعد مع مصطفى اخونا ونحضر للاجتماع قبل ما شفيع يجي.. مالك يا محمود، عينيك شاردة كده ليه ومش مركز معايا، انت كويس!.. فيك حاجة طيب؟!
مسحت وشي بإيديا وبعد كده قولتله..
-مش عارف يا طه.. امبارح قبل ما انام، وزي عادتي كل ليلة يعني، قعدت اقرا شوية مقالات على النت.. ما انت عارف اني بحب القراية من زمان، بس المرة دي وانا بقرأ سرحت في قراية مقال غريب اوي.. المقال ده كان بيتكلم عن نموذج مُحاكاه عملوه اتنين علماء أجانب.. واحد إسمه (ألان روبوك) والتاني إسمه (لوك أومان).. والنموذج ده هو عبارة عن مُحاكاه لأجواء كوكب الأرض إذا حصلت حرب نووية بين دولتين زي الهند و باكستان، وكانت نتيجة النموذج، أنهم اكتشفوا بإن كوكب الأرض هيعيش في ظلام تام، وشتا لمدة ١٠ سنين بسبب غيوم سودة ضخمة هتتكون في السما، و ده هيتسبب في جوع وفقر وموت مليارات الأشخاص، وده بعد ما طبعًا الملايين هيموتوا بسبب التأثيرات النووية، بس تعرف المشكلة في ايه بقى.. المشكلة في إن انا نمت وانا بقرا المقال ده، وبمجرد ما غمضت عيني حلمت بأن الحرب قامت وإن الدنيا خربت خلاص، بس تعرف ياض يا طه.. انت كنت ندل اوي في الحلم.
ضحك طه وقام قعد جنبي وهو بيقولي..
-جرى ايه يا جدع انت، بقى حتة كابوس ومقال من الهري اللي بيتكتب على النت ده، يعملوا فيك كده.. قوم يا سيدي افطر يلا وانا هقعد اتفرج على التلفزيون لحد ما تجهز.. يلا ورانا شغل.
مسك طه الريموت وشغل التلفزيون وفضل يقلب بين قنواته، وقتها بصيتله وقولتله..
-مش عارف يا طه.. الكابوس كان حقيقي اوي، انا حسيت إنه واقع مش مجرد حلم، تفتكر ممكن الحرب دي تحصل في يوم من الأيام، وهل لو حصلت اصلًا ممكن يحصل اللي توقعوه العلماء دول، وبعدين مش عارف.. انا ليه قايم من النوم ومصدق اوي اللي انا شوفته في الحلم ده كده ليه.. داهية سودة لا يكون اللي قريته قبل كده صح.. انا قبل كده قريت في مقال برضه، إن الأحلام اللي بنشوفها دي مش مجرد ذكريات ولا حاجات متخزنة في عقلنا الباطن وبس… دي ممكن تكون صور من بُعد موازي لعالمنا واحنا فعلًا عايشينه او لسه هنعيشه، وله يا طه.. انت مابتردش ليه ياض، مالك مبرق في التلفزيون كده ليه؟!
بصيت ناحية التلفزيون وساعتها برقت انا كمان، القناة اللي كانت شغالة هي قناة أخبارية عالمية، المذيع فيها كان واقف بيتكلم عن خبر عاجل وهو متوتر وقلقان، والخبر ده كان بالنسبة لي كارثي لأنه بيقول ببساطة كده إن من دقايق، المناواشات اللي ما بين الهند وباكستان قلبت بجد، وواحدة من الدولتين ضربت التانية بتلات صواريخ نووية.. وفي المقابل، فالدولة التانية بتحضر ترسانتها النووية بالكامل عشان ترد الهجوم.. وعلى الناحية التانية، فالأمم المتحدة بتحاول تهدي الأجواء، لكن الدولتين رفضوا إنهم يسمعوا لأي كلام من أي دوبلوماسي لأنهم اساسًا مش مشتركين في اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية!
وقتها بصيت لاخويا اللي لقيته باصص لي ووشه كله مليان عرق وبينهج بخوف وقلق..
-ايه ده يا محمود.. الحرب ال..
قاطعته وانا ببص للتلفزيون وبعد كده بصيتله تاني..
-الحرب النووية هتبدأ.. والغيوم جاية ومعاها النهاية…
تمت
#محمد_شعبان
قصة غيوم الموت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى